ولادة المسيح عليه السلام
ولادة المسيح عليهم السلام، سر إلهي قد كشف العلم جزءا منه. وقد اختلف المفسرون قديما اختلافا كبيرا حول توضيح طريقة ولادة السيد المسيح، يقول القرطبي: (وقال بعضهم لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل؛ لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس، ولكن سبب ذلك: أن الله تعالى لما خلق آدم، جعل بعض الماء في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمهات؛ فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا. وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم؛ بعضه في رحمها وبعضه في صلبها..)
من العجيب أن هذا القول الذي يرويه الإمام القرطبي في تفسيره، بصيغة المبني للمجهول دون أن ينسبه إلى أحد، هو أقرب الأقوال إلى علم البيولوجيا الحديث. طبعا مع شيء من التسامح في دقة التوصيف في هذا القول الذي هو مجرد افتراض علمي لم يتيسر للقدماء التحقق منه. وهذا القول يتوافق مع أبحاث العالم البيولوجي الفرنسي "جان روستان"*
يقول جان روستان: (يوجد في مبيض المرأة، بويضة بشرية ملقحة من دون تلقيح ذكر، وتستمر اثنا عشر يوما ثم تندثر، وإن بعض الأجنة يصل إلى مرحلة من التطور توافق مرحلة اليوم الثاني عشر للنمو الطبيعي للبويضة البشرية الملقحة، فتتكون معالم للمشيمة. وقد شاهد العالمان هوش ومورلو عند فتاة صغيرة الانقسام المجهض لبويضة عذراء. وفي عام 1964 أشار موربل -الاختصاصي بالأجنة- إلى وجود حالات من الانقسام دون تلقيح عند نسوة قد فارقن الحياة؛ بسبب التهابات حدثت في أيام النفاس، بعد عشرة أيام من وضع الجنين.. وهذا التوالد العذري بدون ذكر كثير الانتشار بين اللافقاريات وخاصة الحشرات، والفراش، والحشرات العصوية.. وكذلك إن الميل للتوالد العذري وراثي إلى حد ما عند الدجاج الهندي، ووصفت حالات من التوالد العذري غير المكتمل عند الجرذ والأرانب والنمس والقط، حيث برهنت أبحاث بانكوس على إمكانية تحقيق توالد عذري كامل، وذلك بفتح بطن الأنثى وتروية البوق الرحمي بتيار من الماء البارد، وبهذه الطريقة استطاع الحصول على ولادة عذرية كاملة..)
وهذا الكلام يطابق القول السابق الذي يرويه الامام القرطبي: (بان الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم) ويقصد بالماءين البويضة الملقحة من دون تلقيح ذكر. وهذا ليس خاصا لمريم وحدها؛ إنما هو في جميع النساء عامة كما يقول جان روستان، إلا أنها تستمر إلى اليوم الثاني عشر ثم تنتهي هذه البويضة. أما المعجزة التي حدثت مع مريم وهي أن هذه البويضة لم تنته في اليوم الثاني عشر إنما حفظها الملاك حتى صارت جنينا وخرجت إلى الوجود.
وربما هذا ما أشار إليه الإنجيل في وصف المسيح: (الذي هو البداءة بكر من الأموات، لكي يكون هو متقدما في كل شيء)
وقوله (هو البداءة) يعني ربما تكون ولادة المسيح بهذه الطريقة هي البداية وليست النهاية، يعني ربما يشهد المستقبل ولادات كثيرة من هذا النوع، فمن يدري؟
والبكر معناه البداية، يقال: بَكَرْتُ أَبْكُرُ بُكوراً وتَبْكِيراً، وكلُّ من بادَرَ إلى الشيء فقد أَبْكَرَ إليه، والباكورَةُ: أول الفاكهة
وخلق إنسان "بدون تلقيح" هو ما أطلق عليه علم الجينات "تنوية" ومعناه نزع نواة خلية جسمية ثنائية العدد الصبغي وزرعها في الرحم لتنمو إلى جنين. ولذلك من الممكن أن تنجب امرأة دون أن يجامعها رجل، بنزع خليه جسمية من جسمها، وزرعها بين ثنايا رحمها لتنمو إلى جنين كامل، ومن الممكن نزع نواة خلية جسمية لرجل وزرعها في رحم صناعي لتنمو إلى جنين كامل. فيكون من المستطاع أن ننشئ من نواة مأخوذة من خلية إنسان بالغ كائنا جديدا له نفس الصفات الوراثية للشخص الذي أخذت منه نواة الخلية، أي أن النسخة البشرية سوف تبدأ الحياة بمواهب وراثية مطابقة لنفس المواهب الوراثية للشخص الذي وهبها
يقول "كريج فينتر" مؤسس معهد تيجر لأبحاث الجينات: "إننا بصدد صنع التاريخ، فقد اكتشفنا معظم جينات الإنسان في اقل من عامين؛ بالرغم من أن جميع الحكومات كانت ترى أنه لابد من عشرين عاما لبلوغ هذا الهدف"
ولقد ظهرت الآن شركات متخصصة لتطوير الاكتشافات الخاصة بالجينات حتى أصبح مجال التكنولوجيا الوراثية أشبه بلعبة جهنمية بين الشركات العالمية؛ التي بدأت تتسابق عليها الدول الكبرى وأصبحت تأخذ الآن شكل الحرب. وهذه الحرب تدور رحاها بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بهدف غزو الجينات البشرية وكشف أسرارها، وتتصارع على هذه المعلومات الشركات العالمية لمحاولة احتكارها.
إذن، نخلص مما سبق أن القول الذي يرويه الامام القرطبي، يتوافق مع قول "جان روستان" عالم البيولوجيا، وملخصه: أن كل امرأة فيها إمكانية التوالد العذري بدون ذكر، وهناك بويضة ملقحة في كل أنثى تبقى في بعض الإناث إلى 12 يوما ثم تندثر. أما في مريم عليها السلام فإن المعجزة كانت في عدم اندثار هذه البويضة، وان الله عز وجل رعاها وجعلها تنمو وتكتمل إلى مدة 9 شهور ليأتي منها المسيح عليه السلام.
والسؤال هنا لماذا جاء المسيح بدون أب؟
إن في خلق المسيح من غير أب إرهاصا ودليلا على أن النبي القادم سيكون من غير بني إسرائيل، لأن في بني إسرائيل لم يكن هناك رجل صالحا لأن يحمل نطفة صالحة يأتي منها نبي، ولذلك فإن الله عز وجل جاء بالمسيح من غير أب، لأن نطف بني إسرائيل كانت غير صالحة لإخراج الأنبياء، وهذا دليل على أن النبوة من الآن فصاعدا سوف تنتقل من بني إسرائيل إلى أقوام آخرين.
المراجع
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة التكوير، دار عالم الكتب، الرياض،2003، ج4 /93.
* جان روستان: كاتب وعضو في الأكاديمية الفرنسية، قسم حياته بين التجربة العلمية والنشاط الأدبي، وله أبحاث عن التوالد العذري، والاصطناعي، والتوالد بالمؤنث وحده، وازدواج الصبغيات عن طريق تبريد البيضة، والتشوهات الوراثية أو المكتسبة عند الضفدع، وغير ذلك.. كما يعود الفضل إليه، في التعريف بعلم الوراثة، وتحسين النسل، وقد عمل على نشر أسس المعارف البيولوجية (مقدمة كتاب الأمومة والبيولوجيا، ص 7)
جان روستان: الأمومة والبيولوجيا، ترجمة عدنان التكريتي، منشورات عويدات، بيروت، ط3، ص 83، 84، 93
رسالة بولس إلى أهل كولوسي:1/18
إسماعيل بن حماد الجوهري: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1987، ج1/ 50
عبد الباسط عبد الجمل: أسرار علم الجينات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 35
المرجع السابق 93
المرجع السابق 34