تجدد معاني القرآن
إن حقائق القرآن تتجلى في كل عصر للعارفين بما لا تتجلى لسواهم، لأنه الكتاب الذي لا تنتهي هدايته ولا تنفد معارفه، "والدين الحق هو الذي دوما يسبق عقل الإنسان، وليس عقل الإنسان هو الذي يسبقه، لأن الإنسان إذا سبق دينه ودعه وأعرض عنه، وحقائق القرآن ومعارفه سبقت عقول الناس الذين نزل فيهم عهودا طوالا، ويسبقهم اليوم أطول مما سبقهم في الماضي.. ولا ضير على الدين أن يثبت ويستقر، بل على الدين الصالح أن يثبت ويستقر، إنما الضير أن يفهمه زمن ولا يفهمه زمن، وأن يكون فيه حائل بينه وبين عقل الإنسان وضميره في زمن من الأزمان، وتنزه القرآن عن هذا الجمود والفهم المغلوط".
وقد وهم من قال: "إن القرآن الكريم يجب أن يفهم على الأساس الذي كانت تفهمه العرب وقت نزوله، من حيث فهم الألفاظ اللغوية، والعبارات الأدبية"
إن هذا الميزان الذي وضعه الكاتب لا يصلح للقران الكريم، الذي نزل من لدن رب العالمين للناس أجمعين إلى يوم الدين. إنما يصلح للشعر الجاهلي الذي قاله شاعر محكوم بثقافة عصره، وأعراف قبيلته، وحدود باديته أو حاضرته؛ بدليل امتلاء قصائد شعراء الجاهلية بالكلمات المنسية، والألفاظ المتروكة، والتعابير المهجورة التي مهما بلغت ثقافة الشخص ولوذعيته فلن يقدر على فهمها دون العودة للمعاجم والشروح.
إن القرآن الكريم بمثابة كائن حي يكيف نفسه مع ترقي الإنسان في كل زمان ومكان، تماما مثلما تكيف الخلية البشرية الحية نفسها مع الجسم الإنساني في كل الظروف والأحوال. وهذا معنى صلاح القران لكل زمان ومكان؛ فالتفسير التقليدي لبعض الآيات كان صالحا للزمن الذي نزلت فيه الآية، لكن مع تقدم الزمن جدت أمور اقتضت تفسير آخر، وهذا أصل من أصول القرآن العظيم، أن الله يزيل معنى من المعاني ويأتي بمعنى جديد، حسب تقدم الزمن ومستجدات العصر وهو معنى قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد : 39] يعني يمحو معنى من المعاني القديمة ويثبت معنى آخر مناسبا للعصر.
ويمكننا تشبيه القرآن بالنهر الجاري المملوء دائما بالماء، لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري منذ لحظة، لأنه لا يستقر، فالنهر دائما يغير نفسه بنفسه، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل، لكن الماء لا يبقى بل يتغير. وهكذا يصبح القارئ للنص القرآني يتلقاه وهو مزود بالأعراف والتقاليد الثقافية التي اكتسبها؛ فيتقابل أفقان لفهم النص القرآني: أفق النص، وأفق القارئ الذي يريد فتحه على المستقبل؛ فينصهر هذان الأفقان فيولدا قراءة النص وتملكه وفهمه.
أما أن نرى النص القرآني (نصا مغلقا) استنفذ طاقته كما تستنفذ الشيخوخة كيان الإنسان وطاقته وحيويته؛ فهذا تعطيل لكتاب الله أن يكون صالحا لكل زمان ومكان..
وما أبلغ وصف الله عز وجل للقرآن بأنه في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى : 52]. وهذا الوصف يبين لنا كما أن الروح هي الأساس الذي يقوم عليه كيان الإنسان وحياته، كذلك القرآن هو (روح) الكون. والروح لابد لها أن تتكيف مع الإنسان في كل مراحل حياته، فنجد روح الشخص في الطفولة تختلف عن روحه في المراهقة، و الشباب والرجولة!
لذلك يجب على المسلم أن يستشعر عندما يقرأ القرآن الكريم أنه يقرأ نصا إلهيا مقدسا، وليس نصا بشريا كتبه إنسان محدود الأفق والتفكير ومعرّض للخطأ والصواب والزلل..
وما دام ذلك كذلك فلابد أن ندرك أن حروف القرآن ليست حروفا عادية صماء منضودة على الورق، إنما هي حروف نورانية حية تسمع وترى وتحس بمن يقرأها، وتكاد تنطق بلسان وشفتين. كما أن حروف القرآن موكل به آلاف الملائكة؛ وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بالانسان العاقل السميع البصير في قوله: (يَأْتِي الْقُرْآنُ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِى؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِى أَظْمَأْتُكَ فِى الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ في الليالي)
وسوف تتضح هذه الفكرة عندما نتحدث عن معنى انشقاق القمر وكشط السماء.
المراجع
عباس العقاد: المرأة في القرآن، دار نهضة مصر، ص 165
محمد أحمد خلف الله: مفاهيم قرآنية، عالم المعرفة، الكويت، 1985، ص 6
محمد بن عيسى الترمذي: الجامع الكبير، دار الغرب الاسلامي، بيروت، 1996، ج5/160
أبو بكر بن أبي شيبة: مصنف ابن أبي شيبة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2003، ج10/493