تبارك الله احسن الخالقين
يثير النصارى شبهة حول عبد الله بن أبي السرح الذي قال تبارك الله أحسن الخالقين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت فكتبها في المصاحف.
الرد:
روى الكلبي عن ابن عباس أنه لما نزلت سورة المؤمنون نادى النبي صلى الله عليه وسلم الكتبة من الصحابة، وكان من جملتهم عبد الله بن أبي السرح ليكتبوها فرتل النبي صلى الله عليه وسلم:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ..)1
فقاطع عبد الله ترتيل النبي من شدة انبهاره وعجبه فقال: "فتبارك الله أحسن الخالقين". فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: "وهكذا أُنزلت علي.. ". فشك عبد الله بن أبي السرح، وقال: لئن كان مُحمد صادقاً لقد أوحي إليّ، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال؛ فارتد عن الإسلام وعاد للوثنية وهرب إلى مكة فنزلت فيه وفي الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح وطليحة هذه الآية: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ»
أقول إن هذه القصة ظاهرة البطلان وغير منطقية أصلا لعدة أسباب منها:
1- أن عبد الله بن أبي السرح قال هذا القول في المدينة سنة 7 هجرية، ثم هرب من المدينة إلى مكة ولحق بالمشركين. أما "سورة المؤمنون" التي وردت فيها الآية السابقة؛ فنزلت في مكة سنة 7 قبل الهجرة، وهي سورة مكية بإجماع المفسرين، يعني نزلت هذه السورة قبل أن يقول عبد الله بن أبي السرح كلامه بحوالي 13 سنة؟!
2-أيضا قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ..} [الأنعام: 93].
هذه الآية من سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق المفسرين، وهي من أوائل السور المكية. وعبد الله بن أبي السرح قال هذا القول في المدينة بعد نزول هذه الآية بأكثر من 14 عاما..
3- هذه القصة مروية عن الكلبي الذي قال عنه الحافظ الذهبي: (الكلبي الكوفي الشيعي أحد المتروكين، كأبيه. وقال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه. وقال الدارقطني وغيره: متروك الحديث. وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. وكان أبوه مفسرا، ولكنه لا يوثق به أيضا، وفيه رفض كابنه)2
4- ذكر القرطبي عن عكرمة، وغيره أنها: نزلت في النضر ابن الحارث كان يقول: أنا أعارض القرآن.. يعني هناك تضارب في نسبة هذه القصة بين المفسرين.
5-وقيل إن القائل (تبارك الله أحسن الخالقين) هو عمر بن الخطاب وليس عبدالله بن أبي السرح.
يقول الطاهر بن عاشور: (القول بأنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح لا ينثلج له الصدر لأن عبد الله بن أبي سرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة وهذه السورة مكية)3
إذن من خلال ما تقدم يتبين أن هذه القصة ظاهرة البطلان وغير منطقية ومتناقضة أصلا..
المراجع:
1-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 7/40
2-سير أعلام النبلاء للذهبي 10/102
3-تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 7/375
غلبت الروم
يقول تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 3-4)
ذكرت التفاسير أنها نشبت حرب بين فارس والروم؛ فتمنى المشركون ظهور فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يتمنون ظهور الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم؛ فذكروا ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إنهم سيغلبون في بضع سنين.."
إن نظرية تجدد معاني القرآن الكريم عبر الزمن، هي الفكرة التي وضع أساسها القدماء عندما قالوا بالمبدأ الأصولي: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) لذلك أقول لا يقصد بالروم الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، إنما يقصد بالروم الدول الغربية الأوربية، التي سيكون من صفاتها أنها سريعة الانتصار بعد الهزيمة، وليس المقصود بهذه الآية فقط الروم الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الروم باقية إلى قيام الساعة؛ فهم بعد غلبهم وانكسارهم سيعودون إلى الانتصار في سنوات معدودات.
وهذا لا يتعارض مع التفسير التقليدي القائل بأن الحرب كانت بين فارس والروم، وفارس لا كتاب لهم، بينما الروم أهل كتاب، لذلك فرح المسلمون بانتصار الروم أهل الكتاب.. الخ.
إن هذا المعنى صحيح في وقته، لكن بعد فوات وقته يصبح للآية معنى آخر؛ كان موجودا منذ القدم لكن لم يأت الوقت المناسب لظهوره، لأن مصداقه في الدنيا لم يتحقق بعد..
والدليل لهذا التفسير المعاصر الذي ذهبت إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون، أصحاب بحر وصخر، كلما ذهب قرن خلف قرن مكانه، هيهات إلى آخر الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير).
يؤخذ من الحديث السابق: أن الأوربيين سيبقون إلى آخر الدهر، وبهذا تدل آية (غلبت الروم) ليس أمام الفرس، إنما غلبت الروم أمام المسلمين، فهي تشير إلى قتال المسلمين مع الأوربيين، وأن الأوربيين يسرعون في الانتصار بعد الانهزام، وتبقى لهم مع المسلمين صولات و جولات إلى آخر الدهر، وكلما غلبوا من المسلمين انتصروا سريعا، واستطاعوا تجميع قواتهم من جديد، والوقوف أمام المسلمين.
وهناك حديث آخر عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يقول:
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ؛ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ)
والحديث يشير إلى عدة أوصاف للغربيين منها:
1- إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ: أي أنهم حلماء لا يسارعون إلى الغضب والطيش والانفعال.
2- وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ: ومن صفاتهم أيضا عندما تقع عليهم كارثة يتداركونها بسرعة. ومن تأمل ما حدث لهم بعد الحربين العالميتين، عندما تهدمت بلادهم يعجب من سرعة بنائهم لدولهم بعدما أزهقت الحرب منهم أكثر من 40 مليون نفسا.
3- وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ: وهذه الصفة تذكرها سورة الروم، في قوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) يعني بعد غلبهم وانكسارهم يعودون إلى الانتصار في سنوات معدودات، وتكون الغلبة للكفار مرة أخرى بعد اندحارهم وانهزامهم.
4- وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ: يعني أنهم يهتمون بالضعفاء والمساكين وينشئون لهم المدارس ودور الرعاية والإصلاح والتثقيف..
5- وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ: يعني لا يقدر الحكام على ظلم المحكومين طويلا، ولا يعتدوا على حقوق رعيتهم التي تحت أيديهم، وسرعان ما يثورون على حكامهم الظلمة ويطيحون بهم.
المراجع
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة التكوير، دار عالم الكتب، الرياض،2003، ج14/5
جلال الدين السيوطي: الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، دار الفكر، بيروت، 2003 ، ج2/250
محمد بن فتوح الحميدي: الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، دار ابن حزم ، بيروت، 2002م، ج 3 /401
مائدة عيسى علية السلام
يقول تبارك وتعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114]
هل هذه هي المائدة نزلت حقيقة؟
جاء في الانجيل ان عيسى عليه السلام اطعم الناس سمكا وقد كفى هذا الطعام الكثير من الناس، يقول: (واخذ السبع خبزات والسمك وشكر وكسر واعطى تلاميذه والتلاميذ اعطوا الجمع. فاكل الجميع وشبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة. والآكلون كانوا اربعة الاف رجل ما عدا النساء و الاولاد..)
لكن بيان القرآن لهذه الحادثة أصدق وأوفى؛ لأن الانجيل يقول عندما فعل المسيح ذلك كان في الصحراء، وكان الناس يسيرون خلفه لمدة ثلاثة أيام بدون طعام وشراب ليشاهدوا فقط العجائب التي كان يفعلها، وكان عددهم أربعة آلاف مع النساء والأطفال!
نحن نسأل: من أين جاء بالسمك في الصحراء؟ وهل الأطفال والنساء بقوا يسيرون خلفه ثلاثة أيام ليتفرجوا على العجائب والمعجزات داخل الصحراء بدون طعام وشراب؟
يقول الانجيل: (اما يسوع فدعا تلاميذه وقال اني اشفق على الجمع لان الان لهم ثلاثة ايام يمكثون معي و ليس لهم ما يأكلون و لست اريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق. فقال له تلاميذه من اين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده)
أما بيان القرآن فهو دقيق ومعجز حيث قال الله عز وجل:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة : 113-115]
إذن القرآن يقول ان الحواريين كانوا معه فقط، وهذا الشيء أقرب إلى الواقع والمنطق والعقل..
وهنا نسأل: هل هذا الطعام نزل من السماء حقيقة؟ أم هو طعام مبارك نزلت فيه بركه سماوية؟
إن الطعام المبارك هو الذي يشبع اكبر قدر من الناس ويكفيهم جميعا بحيث أنهم لا يطلبون طعاما بعده، فهذا هو معنى المائدة السماوية، وليست المائدة نزلت من السماء ورآها الناس وهي تنزل؛ إنما هو طعام مبارك نزلت فيه بركه من السماء، ثم بقيت هذه البركة ولم ترتفع عن الأقوام التي نزلت عليهم، بدليل قول المسيح: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
ومعنى عيدا، يعني تعود وتتجدد مرة بعد مرة..
إذن هناك طعام مبارك نزل، وهناك بركة سماوية نزلت ولم ترتفع، ولقد استجاب الله دعاء المسيح عليه السلام، لذلك سوف تكون دول أوروبا المسيحية في سعه من الرزق والعيش وكثرة الأرزاق المتجددة إلى يوم القيامة بسبب دعاء المسيح عليه السلام.
هذا هو المقصود بالمائدة التي نزلت على عيسى والحواريين وهي عبارة عن رزق مبارك نزل ولن يرتفع إلى يوم القيامة، وهذا ما نشاهده في الدول الأوروبية المسيحية حيث يعيشون في ثراء ورزق وفير برغم كفرهم، وذلك كله بسبب دعوة السيد المسيح عليه السلام!
المراجع
انجيل متى 15/34-39
المرجع السابق 32-34
ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1998، ج3/315