top of page

ذكريات المدرسة الابتدائية

أذكر أنني كنت في الصف الرابع الابتدائي، وكنت يومها قد هربت من الفسحة في حوالي الساعة التاسعة والنصف أنا وزميل لي، وكانت مدرستنا مدرسة أحمد عبد العزيز تقع بجوار سوق الخضار المركزي، الذي يسمى (الخان) ولازالت المدرسة على حالها حتى الآن لم تتغير والخان كذلك!

وكان يأتي إلى هذا السوق يومها تجار من كل أنحاء فلسطين ليبيعوا فيها الفواكه، ويأخذوا منها بعض الخضار الرخيصة التي تباع بأثمان مرتفعة في أسواق إسرائيل..

كان الجو جميلا في هذا اليوم والسماء صافية والشمس دافئة؛ فتسلقنا سور المدرسة من الناحية الخلفية حيث كان مهدما وغير مرتفع نوعا ما، وكان بعض التلاميذ الفاشلين قد وضعوا بعض الحجارة فوق بعض إما لمن يريد الهرب من المدرسة أو إغراء لمن لا يريد. فدخلنا السوق وإذ بنا نبصر سيارة قديمة من نوع (تندر) رمادية اللون تقف في وسط السوق، وعليها لوحات صفراء مما يدل على أن صاحبها يهودي جاء من داخل إسرائيل لبيع الفاكهة أو شراء الخضار، وكان في السيارة طفل أبيض جميل ربما يصغرنا بأربع سنين..

وكانت السوق قد خلت من التجار والمارة تقريبا باستثناء بعض الأشخاص الداخلين والخارجين إلى مكتب الحسابات الصغير، أو المشغولين بتحميل صناديق الخضار الفارغة في سياراتهم أو على عرباتهم المحمولة على الدواب..

اقتربنا من السيارة وإذ بنا نبصر على طبلون السيارة الرمادية علبة سجائر من نوع (تايم) وعلبة كبريت وضعت بجانبها، فأغرانا منظر علبة السجائر البيضاء الجميلة بسحره، فاقتربنا من السيارة وبدأنا ننظر إلى السجائر من وراء الزجاج، ثم أشرنا للطفل الذي يجلس خلف المقود، أن يعطي كل واحد منا سيجارة فهز رأسه تعبيرا عن الرفض. فانتهرته وأنا أتصنع أن أرسم على ملامحي شيئا من الجدية والشر، فما كان من الطفل إلا أن مد يده إلى علبة السجائر وناولها لنا من فتحة الزجاج، فلما فتحنا العلبة وظهرت لنا السجائر البيضاء المرصوصة بعناية كأسنان بيضاء نظيفة، أشرقت نفوسنا بالأمل وشعرنا بسعادة ما بعدها سعادة، وكأننا قد حصلنا على كنز من مغارة علي بابا والأربعين حرامي..

لكنني في نفس اللحظة أحسست أنني أقدمت على عمل غير مشروع. وهنا حدث جدال قصير بيني وبين زميلي الذي برفقتي، هل نأخذ علبة السجائر كاملة أو نأخذ لكل واحد منا سيجارة أو سيجارتين ونردها للطفل شاكرين أو غير شاكرين. وبدأ الطفل يتململ وراء مقود السيارة، وأخذ يرتفع بعنقه ويرنو ببصره ويصوبها نحو مكتب الحسابات الذي دخل فيه والده، وكأن الطفل بهذه الطريقة يستعجل قدوم أبيه للتصرف مع هذين الشقيين اللذين جاء إليه على غير توقع منه أو انتظار..

وهنا حزمنا أمرنا وقررنا أخذ العلبة كاملة وعدم إرجاع شيئا منها، ثم أطقنا سيقاننا للريح ونحن نظن أننا حصلنا على أعظم شيء في الوجود، ثم ذهبنا إلى أطراف المدينة، حيث حقول الشعير والقمح الخضراء، وفي أشجار البرتقال قضينا النهار ولم نرجع حتى كنا قد انتهينا من تدخين السجائر جميعها..

 

لكن يبدو أن الحياة لا تعطي شيئا دون مقابل، وأن كل عمل غير مشروع نقوم به قد خُطّ عليه الثمن خفيا..!

إن هذه الحادثة وإن كانت صغيرة في عرفنا نحن الصغار، فقد كانت فاتحة شؤم وشر..! فقد تعودنا شرب السجائر منذ ذلك الحين، وأصبحنا نشتريها من النقود القليلة التي نأخذها من أهلنا لشراء الطعام أو العصير، وكنا إن لم نجد ما يكفي من النقود لشراء السجائر، نقوم بجمع أعقاب السجائر من المقاهي، أو بعد انتهاء حفلات الزواج التي كانت تقام في الشوارع أو البيوت، فنقوم بإفراغ هذه الأعقاب في ورق السجائر الشفافة ونصنع منها سيجارة كاملة ندخنها..!

 

إنني أفكر الآن بعد هاتيك السنين في هذه الحادثة الصغيرة أحيانا: ماذا قال الطفل لأبيه عندما عاد فلم يجد السجائر؟ وماذا قال له أبوه تعليقا على العرب الذين سرقوا سجائره؟ وما هو الانطباع الذي رسخ في ذهن الطفل يومذاك عن العرب؟ وهل لا زال هذا الطفل يذكر هذه الحادثة، وإذا كان يذكرها فبأي طريقة وأسلوب قصها على أبنائه وأصدقائه بعد ذلك..؟ أو ربما عاد هذا الطفل بعدما كبر كجندي احتياط إلى غزة، وكان يتمنى ولو بدافع الفضول أن يعثر على هذين الشقيين اللذين سرقا سجائر أبيه تحت ضغط التهديد، أو ربما كان يدقق في كل من يصادفه من وجوه العرب لعله يتعرف على ملامحهم أو يعثر عليهم، ربما وربما...

أسئلة كثيرة لم أجد لها الجواب..!

bottom of page