top of page

لقد كانت أم محمود تناهز التسعين عاما، أو يزيد، وكان لها فضل كبير علي، فقد تربيت في بيتها، وكنت أقضي معظم أيام طفولتي عندها. فقد كانت تعطف علي كثيرا، ولكنها كانت قاسية بعض الشيء، وكانت عندما تراني بعدما كبرت، تمازحني وتذكرني بأيامي الماضية، التي عشتها عندهم، وتذكرني أيضا بنوادري وأنا صغير، ولكنها بالرغم من ذلك كانت امرأة سليطة اللسان تجاهر بالحق ولا تخشى أي شيء، وهي من الجيل الذي اندثر، وكانت حكيمة تحفظ كثيرا من الحكم والأمثال، كما كانت لديها معرفة كبيرة بالطب العربي، والعلاج، وشفاء الأمراض، والرقية من الحسد وغيرها.. وكانت صاحبة يد مبروكة، يقصدها نسوة كثيرة لطلب الشفاء والبركة.

وبالرغم من كبر سنها وتقدمها في العمر، فقد كانت صاحبة ذاكرة حادة، لا تكاد تخطيء شيء، وكانت ذات عينين حادتين تخترقان من يقف أمامها، وقد توفى زوجها من سنين وكان كذلك رجلا صالحا مسالما، لكنه ليس مثلها في  الذكاء والفطنة..

ذهبت إلى المقبرة لحضور مراسم الدفن وجلست هناك، وبعد قليل جاءت سيارة الموتى التي تحمل النعش المهيب، وأنزل الرجال النعش بسكون، وأحاط الرجال بالقبر ينظرون في القبر، وكأنهم يفتشون عن شيء ما، وكانت تلك من العادات السيئة التي تعود عليها الناس هنا، ولا يهم ان كان الميت ذكرا أو أنثى.

وهنا، بدأت ألاحظ شيئا غريبا لم ألاحظه في جنازة أي امرأة أخرى، فبالرغم من أن أم محمود كانت قد تجاورت التسعين عاما، ولم يبق أحد من جيلها على قيد الحياة، بالرغم من ذلك، فإن جميع الحضور، وبصورة تلقائية، بدءوا يسترون القبر، ويوجهون الكلام والتحذيرات إلى بعضهم البعض بأخذ الحيطة والحذر وعدم النظر إلى هذه المرأة وهي تدفن، وكأنها عروس في ليلة زفافها، وكان الجميع يشعرون بالحياء والخجل من النظر إليها، أو حتى من النظر إلى بعضهم البعض، وكأنهم ضبطوا أنفسهم متلبسين بذنب ما،  فلما وضعوها في القبر، أهالوا عليها التراب سريعا، حتى ان الشيخ الواعظ الذي ألقى الموعظة، في أعقاب دفنها، كانت كلمته قصيرة خجولة، ربما لم تتجاوز خمس دقائق، سبحان الله!

لقد انتاب الحضور حياء عجيب، ويبدو أن ذلك من كرامة من كرامات تلك المرأة، التي عاشت طاهرة كأشد ما تكون الطهارة في النساء، وماتت كذلك طاهرة.

وكان يغلب على الحضور سكون عجيب، وكان المكان ساكنا فيه صمت وخشوع ووقار، وكان غالبية الحضور قد غمرتهم نفحة من نفحات الإيمان وصحو الضمير!

لابد ان تكون تلك كرامة من كرامات تلك المرأة التي أحسبها صالحة والله حسيبها!

وبعد الدفن غادر أغلب الحاضرين المقبرة، ومكث أولادها فقط عندها، وتقدمت منهم لتعزيتهم، فسلمت عليهم، فبدأت بأكبرهم، فما أن رآني حتى قام واحتضنني وقال بصوت حزين: سامحها!

فتأثرت من هذه الكلمة وكدت أنفجر في البكاء، وقلت: سامحها الله، وأحسن إليها، وتقبلها في الصالحين!

اللهم يا رب لا تحرمنا أجرها، ولا تفتنا بعدها, واغفر لنا ولها.

bottom of page